المنطق الرياضي:
لم يكن العرب، على الرغم من تبصرهم وحدسهم الثاقبين – كما سأبرهن بعد قليل بتنبئهم بالهندسة اللاإقليدية[9]، – لم يكونوا ضعفاء في المواهب الاستنباطية العقلانية والتحليل العلمي. وأحد براهيني على ذلك مثال ابن الهيثم في كتابه في حلِّ شكوك إقليدس، حيث نقض تعريف إقليدس الساذج للخطين المتوازيين، بل أكمله. إذ عرَّف إقليدس الخطين المتوازيين بأنهما الخطان اللذان لا يلتقيان في الامتداد. لم يُعجِب هذا التعريف اللاعلمي عالِمَنا ابن الهيثم، فدخل في دراسات دقيقة، وصحَّح التعريف وروَّضه (أي جعله رياضيًّا)، إذ أدخل مفهوم الحركة والزمن ومفاهيم أخرى، كالاستمرارية والبساطة، التي، سَبَقَ فيها مفاهيم الهندسة التفاضلية التي هي أساس الفيزياء الحديثة، وأخضع اللانهاية لمبدأ فلسفي رياضي هو مبدأ التركيبية Constructivism، وتحدث عن حقيقة الوجود الرياضي بمعناه الحديث، واستعمل بذلك مبدأ الخوارزميات في إنشاء اللانهاية. فاللانهاية عند ابن الهيثم هي نظام صيرورة دينامي، بعكس نظام الخطوط المتناهية الساكن. وهذه هي من أهم أساليب المنطق الرياضي الحديث.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الخوارزمي الذي أسَّس الخوارزميات؛ وهي في الحقيقة إخضاع للخيال الرياضي البحت لإجراءات هامة جدًّا في عملية الحَوْسَبَة. وقد أسَّس الخوارزمي علم الجبر، ولم يبتدئ بذلك من أسُس تجريبية، كالرياضيات الإغريقية، بل من مبدأ عملي جدًّا: فقد اكتشف الجبر وهو يحل مسائل في التجارة وتقسيم الميراث! ولكن العرب، عندما اكتشفوا هذا العلم البالغ الأهمية، لم يتوقفوا عند حدود التطبيقات، بل تطلَّعوا إلى آفاقه النظرية، فحلوا المعادلات الجبرية؛ وأهم من ذلك كلِّه أنهم مزجوا الجبر بالهندسة، وكان ذلك من أهم الثورات المنهجية في الرياضيات. وكانوا أول مَن استعمل الاستقراء الرياضي، كما برهن رشدي راشد في كتابه تاريخ الرياضيات العربية، باستعمال السموءل والكرجي لمبادئ الاستقراء الرياضي. وقد برهنتُ، من جانبي، أن الكندي كان قد سبقهما إلى إدراك هذا المبدأ. والاستقراء هو من دعائم المنطق وعلم الحوسبة.
وهكذا، فتعدد تطبيقات العرب للمنطق وتنوعها، كما تبيَّن لنا حتى الآن، أفادا المنطق وأغنياه. ونحن نعرف اليوم أن تطبيق علم، كالمنطق مثلاً أو الرياضيات، في مجالات حياتية أخرى لا يفيد الأخيرة فقط، بل إن لذلك تغذية رجعية feedback على العلم الأصلي المطبَّق؛ والأمثلة على ذلك لا تُعد ولا تحصى. ويسرني أن أورد هنا مثالاً من علمي التفاضل والتكامل اللذين أوجدهما الغربيون في عصور النهضة في أثناء دراساتهم الرياضية الفيزيائية. لكن العرب سبقوهم إليه، كما بيَّن يوشكيفتش(في دراسته لثابت بن قرة) ورشدي راشد وغيرهما، وهي أساليب لانهايتية infinitistic.
نستنتج من ذلك أن اهتمامات العرب التطبيقية وولعهم بالنظرة الشمولية للعلوم أفاد المنطق والرياضيات كثيرًا. وسأذكر لكم مثالاً آخر من المنطق ليحيى بن عدي: لا شكَّ أن يحيى استفاد من منطق أرسطو، لكنه حاول أن يطبِّقه على قضايا لاهوتية ودنيوية، فأنشأ دراسة للعلاقات ووضع متناقضة العلاقة الفارغة، فسبق بذلك الرياضي الإنكليزي برتراند راسل. وأنا في صدد محاولة إكمال نظريته في العلاقات؛ وقد حققتُ اكتشافات هامة في ذلك فتاريخ المنطق العربي حي، وليس هو مومياء نشرِّحها كما يشرِّحها الغربيون، بل كائنات نائمة نبعثها حية ونطوِّرها، بأن نتقمَّص عقلية العالِم العربي الذي وضعها؛ وهذه هي الطريقة الوحيدة لفهمها. ولذلك لم يفهم الغربيون العلوم العربية فهمًا تامًّا. ولقد قال أحد فلاسفة الصين: "لكي تفهم معنى الزهرة يجب أن تصير زهرة"!
نقلا من احد مواقع الانترنت