ما هي حقيقة الرياضيات؟
وهل تجسّد الرياضيات الحقيقة الأبدية كما يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون؟ أم هي لغة الطبيعة كما يقول جاليلي، الذي اعتقد أن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات؟ أم هي لعبة من صنع الإنسان، كما اعتقد آخرون؟ وإنك تجد الرياضيين الذين اهتموا بالإجابة عن هذه المسألة ينقسمون أيضاً حولها إلى ثلاثة أقسام: فمنم قائل إن الرياضيات هي حقيقة مطلقة علوية، كونية، وتحمل صفة الصدق الأبدي. ومِنهم قائل إنها ما يوجد في الطبيعة من قوانين، وإن الإنسان لا يفعل سوى أن يكتشف هذه القوانين. ومِنهم قائل إنها من صنع الإنسان.
وينضم ديكارت إلى وجهة النظر الأولى، حيث رأى أن للرياضيات وجودا موضوعيا مستقلا عن الطبيعة وعن الإنسان، وإن كانت تستمد شرعيتها من وصف الطبيعة واكتشاف قوانينها. ويؤيد جيمس جينس هذه النظرة ويقول إن المعماري العظيم الذي صنع الكون، قد بدأ يظهر الآن، وهو عالم رياضيات.
أما عالم الرياضيات برتراند راسل، نفى أن تكون الرياضيات مستمدة من الطبيعة، بل بالعكس: إن قوانين الطبيعة هي رياضية، لأنها تعكس أفكارنا الذاتية على الطبيعة يقول راسل.
وكما يختلف الكبار في مصدر الرياضيات أو طبيعتها، فإنهم يختلفون في ماهيتها أيضا . فإذا كنت تسأل ما هي الرياضيات؟ فإنك لن تجد الكثيرين ممن يسرعون في إعطاء الجواب.
ويصر أحد الكتّاب المعاصرين الذين قرأت له مؤخرا:ً أن الرياضيات لا تعريف لها.
ويقول هيلبرت مثلاً: إن الرياضيات لوحة مطرزة من الصيغ، التي يمكن خلقها من مجموعة من البديهيات الأولية، طبقاً لقوانين محددة ،ولكن برأيي أن هذا التعريف من الشمول بحيث أنه يصلح تعريفاً للموسيقى أيضا.
أما البروفيسور مجيدور رئيس الجامعة العبرية، فيقول: الرياضيات هي نشاط فكري يقوم على استنتاج النتائج من الافتراضات، وهو تعريف واسع أيضاً، يكاد ينطبق على معظم العلوم.
وتذكر إحدى الموسوعات الرياضية الإنكليزية: أن الرياضيات هي دراسة الأشكال، التنظيمات، الكميات، والكثير من المفاهيم المتعلقة بها.
وللخروج من مأزق التعريف هذا، ترى جماعة بورباكي الفرنسية، أن الرياضيات هي نشاط إنساني مثله مثل غيره، ولو سئلنا ما هي الرياضيات، فلا ينبغي أن تقول أكثر من أنها نتاج العمل الذي يقوم به علماء الرياضيات.
ويكتب هوجين مؤلف كتاب الرياضيات للمليون: أن الرياضيات هي لغة الكميات، وأن قوانين الرياضيات لا تختلف كثيراً عن قواعد اللغة ومثل قواعد اللغة، ينبغي للمرء الذي ينتمي لثقافة متقدمة كثقافتنا أن يتعلمها، ولا تملك هذه القواعد، سواء أكانت قواعد الرياضيات أم قواعد اللغة، الصدق أو الحقيقة الأبدية التي توصف بها عادة، بل هي قواعد متفق عليها فحسب.
فبدون قوانين تنظيم السير ما كان السائقون يستطيعون السير في الشارع. وإذا كانت لغة الرياضيات صعبة، فلأن قوانينها ينبغي أن تدرَّس ، فكذلك قوانين السير صعبة على مَن لم يتعلمها، وليس بسبب أن الرياضيات غريبة على الإنسان، وكما في اللغة، إذ يكون عليك أن تتعلم الكثير قبل أن تصبح قادراً على قراءة جريدة، كذلك في الرياضيات، وكما أن التلفظ ببعض العبارات الأجنبية ليست دليلاً على ثقافة اجتماعية واسعة، كذلك فإن معرفة
سطحية لقوانين الرياضيات لا تخوّلنا الانضمام إلى هذا النادي الكبير الذي هو نادي الرياضيات، فالثقافة الرياضية هي القدرة على استعمال لغة الرياضيات، في الأنظمة الحياتية